معلّم البناء العربي الأصيل : مهنة عريقة تتحدّى الحداثة

Whatsapp

 خاص صور برس – زينب نعمة 

عندما نتحدث عن البناء المعماري اللبناني الأثري ، لا يسعنا إلا أنّ نذكر المعلّم العربيّ الأصيل، وهو البنّاء الذي يشيّد ويرمم البيوت والأبنية على الطرق التقليدية التراثية والتي تتمتّع بخصائص محددة تختلف عن طرق البناء الحديثة.

 وفي ظلّ التطوّر العمراني السريع ودخول ثقافة الشركات الهندسية الضخمة أصبحت هذه المنهة شبه نادرة وقلّة هم الذين حافظوا عليها من الاندثار .

عائلة “أبو دياب ” العريقة في قرية “الجاهلية ” في الشوف ، تمثّل نموذجا ً صان هذه المهنة وتناقلها من الأجداد إلى الآباء  فالأحفاد .

يتحدّث السيّد ” فاضل أبو دياب” كيف قام مع أخيه بتعلّم المهنة على يدّ جدّه وعمّه منذ طفولته المبكرة . فكان يذهب  لمعاينة العمل الدقيق الذي يقوم به جدّه وعمّه “ملوك الكار ” من دون منازع . يشرح “أبو دياب”عن دقّة العمل في هذه المهنة ، لأنها تعتمد على الحسّ الفنّي والجماليات بالدرجة الأولى .فالأعمدة الرومانية التي تُنحت باستعمال الإزميل يدويا ًهي نموذج لهذا الفنّ العمرانيّ ، كذلك القناطر والحفريات الحجرية والأسقف الخشبية العالية ، والعُقد الحجرية على اختلاف أنواعها وأحجامها ،والتيجان المنحوتة يدويا ً ، إضافة إلى جدران الحجر الرمليّ، والقمرية (المنور). كلّ هذه التفاصيل الهندسية العريقة تُشغل باتقان يدويّ وحرفيّ وتستغرق وقتا ً وجهدا ً لا يستهان به. على عكس البناء الحديث الذي يتّصف بالسرعة والعملية .

يخبرنا السيد فاضل كيف قام على مدى سنوات عمره الطويلة  ، بترميم عشرات الأبنية الأثرية والقصور الخاصّة والعامّة والرسميّة، والسرايات الحكومية التراثية في منطقة الجبل كسراي بعقلين وفي مدينة بيروت أيضا ً. كذلك مباني البلديات الأثرية المعروفة بدقّة بنائها وتصاميمها ، والمباني القديمة في البقاع والشمال وصولا ً إلى أقصى الجنوب .ويخبرنا كيف تمّ الإستعانة به في ترميم العديد من الصروح الرسميّة المهمة حيث شهد الجميع على براعته وحرفيته العالية في هذه المهنة الصعبة . فهو بالإضافة إلى الإتقان العالي لعمله والتطوير الدائم لمعارفه ، يعوّل على السمعة الطيبة والصيت الحسن الذي هو رأسمال العامل لضمان نجاحه واستمراره في مهنة صعبة واستثنائية . السرّ هو في التعاطي مع أيّ مبنى يعمل فيه كأنه يخصّه شخصيا ً ويعمل فيه بضمير مهنيّ عالي وبنزاهة فريدة لتحقيق أجمل النتائج التي ترضي أصحابه .

يكمل “وسيم أبو دياب” الأخ الأصغر لفاضل وشريكه في المهنة ، متحدثا ً عن عملية الترميم التي قام بها للأبنية التراثية القديمة في مدينة بيروت  بعد الانفجار الضخم في مرفأ المدينة في الرابع من آب من العام الماضي ، والذي أصاب هذه المباني بأضرار فادحة وكبيرة وتحديدا ً للمباني القريبة من مكان الواقعة . يقول “أبو دياب ” كيف قام بترميم منازل بعض الأسر التي تشققت جدرانها بشكل فادح وانهارت أسقفها وقناطرها وتهدمت تفاصيل كبيرة داخل المباني. ويوضح أنّ عملية ترميم هذا النوع من الأبنية القديمة تتطلّب تقنيات وأساليب دقيقة ومحددة بسبب دقّة البناء ونوعه من جهة ، والتاريخ الزمني القديم الذي يفرض التعاطي باستثنائية وحرص شديد للوصول إلى أفضل النتائج وإعادة البناء إلى ما كان عليه قبل حصول الواقعة المدوّية .

إنّ هذه الأبنية كانت تشيّد بطرق مختلفة عن طرق التشييد الحالية، فطرق تصميمها كانت من حجر القطع الطبيعي وليس الصناعي، ويتجاوز ارتفاع الأسقف حوالي الثلاثة أمتار ونصف في حين ارتفاع الأسقف الحالية حوالي المترين والنصف. وتحوي هذه الأبنية على القناطر الداخلية والخارجية التي تُبنى بتصميم هندسي أنيق. بعض الأبنية كان يشيّد عليها القرميد ليعطي جمالية كبيرة وكان يُبنى فوق القرميد الخشبيّ المميز من النوع البحري الذي يقاوم المياه والرطوبة ويتّصف بالديمومة والقوة والمتانة ويبقى لسنوات طويلة .

من “الفجر” لل”النجر”

وعن سؤاله عن الفرق بين معلّم البناء العربيّ القديم وعن معلّم البناء الحالي يقول السيد “أبو دياب” أنّ العامل في ما مضى كان يمتلك قوّة جسديّة كبيرة تعينه على صعوبات العمل وتفاصيله المتعبة والمضنية ، لانّ العامل لم يكن يعتمد على وسائل وتقنيات كما يحصل حاليا ً،لذلك كان الاعتماد الأساسي على طاقته ووقته وجهده وضميره المهني .

كما أنّ الوقت الذي كان يستغرقة التشييد منذ 40 سنة كان أكثر من الوقت المستغرق اليوم، لأنّ التطوّر العمراني سهّل الكثير من الأمور واخنصر الوقت ضمن منظومة عصر السرعة الذي طال كلّ شيء  من دون استثناء.

جولة في “الجاهلية “

وخلال جولة في أرجاء قرية “الجاهلية” ، رصدت كاميرتنا المنازل القديمة التي شيّدتها عائلة “أبو دياب” والتي تعود كثير منها للحقبة العثمانية . ومنها منزل الجدّ الأكبر الأثريّ الذي يُشتهر كأقدم منزل في القرية .المنزل يعود بناؤه لمرحلة الانتداب العثماني على جبل لبنان ، وفيه تفاصيل بالغة الدقّة والروعة  كالنقوش  التي كانت تنحت كرسوم على الجدران الخارجية للمباني ، والتي كانت تحمل دلالات شعبية سائدة في وقتها .

 

 قصّة ” المشربية ” ؟

المشربيّة هي نافذة أو شرفة ( فتحة) في الجدار مغطاة بإطار مكوّن من تراكب مجموعة من القطع الخشبية الصغيرة اسطوانية الشكل (دائرية المقطع) على شكل سلاسل تفصل بينها مسافات محددة ومنتظمة بشكل هندسي زخرفي دقيق وبالغ التعقيد..

يعود تاريخها للقرن 13 ميلادي  إبّان العصر العباسي واستمرت حتى أوائل القرن ال20 نهايات الدولة العثمانية في بلاد الشام وكانت تبنى بواسطة الخشب والزجاج . قام السيد فاضل أبو دياب مع أخيه بأخذ فكرة التصميم الدقيق وقام ببنائها في منزله عبر الحجر (وليس الخشب) بطريقة فنيّة رائعة جدا ً وزاخرة بتفاصيل فنيّة عالية الجودة .

 

تأمل عائلة “أبو دياب” أن يتمّ حفظ المهن القديمة من الإندثار وعلى الصعيد الشخصي تسعى العائلة الى توريث المهنة إلى الأجيال اللاحقة ، فهي ضمانة كبيرة على الصعيدين الماديّ والمعنويّ ، وعلى صعيد الأثر والبصمة المهمة التي جعلتهم مميزين ومقصد للكثير من الناس في أرجاء الوطن ، وحتى خارج حدوده ،لتصل أصداء عمل المعلّم العربيّ الأصيل إلى الخليج وغيره من المناطق.

 

 

 

 

 

 

Whatsapp