لا للرّمي ..نعم للرتي : الغلاء يغيّر ثقافة المجتمع اللبناني الأستهلاكية

Whatsapp

خاص صور برس – زينب نعمة 

“كان ينخزق البنطلون .. كبّوا وجيب غيرو .. هلأ بطلت اقدر لأنو غالي كتير “

بهذه العبارة بدأت حديثها “سارة” وهي تخرج الملابس من الكيس لتعرضها على الخيّاط وتوضح له مكامن المشكلة في كلّ قطعة . كيس ضخم يحوي الكثير من الملابس لها ولأفراد عائلتها بحاجة إلى “تزبيط” من أجل الإستفادة منها .

تقول “سارة “(35 سنة ) أنّه لم يخطر ببالها أن يأتي يوم ستضطر فيه أن تلجأ لهذا الخيار بسبب الغلاء الكبير في الملبوسات ، والتي تتخطّى قدرتها على تحمّلها بسبب راتبها المحدود.

عبارة سارة تتكرر كثيرا ً في الفترة الأخيرة ،فقد فرضت الأزمة الإقتصادية في لبنان نمطا ًجديدا” على الناس ، فبعد أن كانت ثقافة اللبنانيّ تعتمد بشكل أساسيّ على  الشراء الكثير يقابله الرميّ بهدف التجديد كنتيجة لثقافة الإستهلاك المفرط التي كانت تسيطر على المجتمع ، تعزّز مفهوم ” التصليح ” في مختلف شؤون الحياة،أبرزها المقتنيات الموجودة في المنازل كالأثاث والملابس، وذلك بسبب الارتفاع الجنوني  لأسعار السلع كافّة والتي حرمت المواطنين من النمط السابق ،ليحلّ محلّه نمط جديد أكثر مداراة وحكمة .

يقول الخياط ” عباس صقر ” أنّ العمل زاد كثيرا ً في الفترة الماضية ، تأتي الزبائن لتضييق أو تقصير الملابس أو درز وتقطيب المخزّق منها . البارحة أتت سيدة تريد تصغير ملابس كبيرة من أجل طفلها بسبب عدم قدرتها على شراء ثياب جديدة له .

حال السيدة كحال عشرات المواطنين العاجزين عن مجاراة ارتفاع الأسعار الجنوني الذي يطال مختلف جوانب الحياة من دون استثناء .

وخلال جولة على مجموعة محلات للتصليح في بيروت، بدا واضحا ً أنّ حركة العمل تحسنت في الفترة الأخيرة .يقول “أبو أحمد” ، وهو مصلّح للأدوات الكهربائية أنّ المواطنين يقبلون على تصليح سلعهم القديمة كالمراوح والتلفزيونات والمكوايات بسبب غلاء أسعار هذه المعدّات ما أدّى إلى زيادة وتيرة العمل بنسبة عالية عن السابق . يؤكّد جاره “السكّاف” أبو وسيم على كلامه ، معتبراً أنّ الأزمة الإقتصادية الخانقة منعت الكثير من المواطنين من شراء أحذية جديدة بسبب سعرها الباهظ ،لذلك يتمّ اللجوء اليه لتصليح وصيانة الأحذية وإعادة الاعتبار لها كي يتمّ الإستفادة منها إلى أقصى حدّ.

بحسب السيدة “فاطمة” صاحبة مصبة في بيروت ، فإنّ حركةالعمل زادت في الفترة الأخيرة بسبب ارتفاع أسعار الملابس نتيجة لارتفاع سعر الدولار الذي لامس ال 18000 ليرة .

كثير من الزبائن يلجؤون إلى الصباغة لتغيير لون الثياب بدلا ً من شراء “الجديد”.

وبالمقابل تظهر مشاكل وتحديات أخرى لدى أصحاب هذه المصالح وهي بارتفاع أسعار المواد المستخدمة في العمل كسعر أدوية الصباغة والبخاخات الكيميائية المستخدمة في إزالة البقع عن الملابس ، كذلك أسعار شماعات الملابس (تعاليق) وأسعار النايلون .

كذلك ازدهرت مهنة الخياطة والرتّى . فالرتي كلمة يعرفها أهالينا، يقول الخياط “سامر”، إنّها حرفة يقوم بها بعض الخياطين المبدعين إذا تمزق الثوب، فيرتيه، أي أنه يشكّل خيوطا من نفس نسيج الثوب وقطنه لإخفاء التمزق. ويعتبر أنّ الخياطين أصبحوا يستسهلون ويضعون قطعة قماشية مختلفة “بادج” (رقعة جاهزة) على أنّها أسلوب جميل لإخفاء العيب. ويضيف أنّ الناس بحاجة لخياط ماهر ليرقع الثياب الممزقة مع إبقائها مرتبة ومقبولة للارتداء.

لم يكن يظن “سامر” أن زخم العمل سيعود لأنّ الناس أصبحوا يرمون أغراضهم حتى الغالية الثمن إما بسبب تبدل الموضة وإما لأنها اهترأت، إذ كانت القدرة الشرائية لا بأس بها.

اليوم وبعد ارتفاع الأسعار زاد الإقبال على تصليح الملابس بشكل هائل ، وبعض الناس باتوا يلجؤون إلى الخياطة والتفصيل اليدوي هروبا ً من الأسعار الخيالية للفساتين في الأسواق اللبنانية.

إذا ً فالثقافة السائدة في المجتمع تغيّرت بشكل جذريّ بعد ارتفاع الدولار وغلاء أسعار كل مستلزمات الحياة الضرورية والكمالية، بات اللبناني يحسب ألف حساب قبل أن يرمي قطعة ما زالت قابلة للتصليح.

هذا  المنطق بات ينطبق على أكثرية الطبقة المتوسطة التي تتقاضى أموالها بالليرة اللبنانية، والتي لم تعد متوسطة مطلقا ً بعد أن خسر كثير من الناس وظائفهم بسبب كورونا والأزمة الاقتصادية الضاربة في لبنان وحجز أموال المودعين وتقطيرها من قبل البنوك.

هذه الحال أعادت عددا ً من المهن كانت في طريق الاندثار بسبب انتفاء الحاجة لها.

أصبح الناس يصلحون كل شيء من حنفيات إلى أدوات كهربائية ويدوية، وبالكاد يشترون قطعا ًصغيرة لإصلاحها.

ونشأت أفكار وحيل لإصلاح الخشب والحديد والكهرباء وغيرها بأقل سعر ممكن، إذ يزداد الطلب على المصلحين والنجارين لترميم العفش القديم بتقنيات جيّدة ومتينة بدل شراء مقتنيات جديدة بات سعرها “ثروة” على أصحاب الوظائف وذوي الدخل المحدود ، الذين باتوا يحسبون ألف حساب لليرة التي تفقد قيمتها يوما ً بعد يوم ، والتي تقضي على أحلام اللبنانيين البسيطة ، وتدخلهم في دوّامة يأس وإحباط بات من الصعب الخروج منها في الأمد القريب .

للتواصل مع الكاتبة زينب نعمة

[email protected]

Whatsapp