خاص صور برس – زينب طالب- بيروت
يعتبر اللباس التراثي أحد أبرز المظاهر للتعبير عن هوية الشعوب وثقافتها. لكن الواقع أنّ هذا النمط يغيب كليًا عن خزانة ملابس المرأة اللبنانية. لاسيما أنّ لبنان بتاريخه وموقعه وتنوعه الثقافي، استقبل تاريخيًا أكثر من نمط لباس، حسب ميول أبنائه الشرقية أو الغربية وإنتماءاتهم الدينية والمذهبية. فيكفي أن تتجول داخل متاجره لتجد آخر صيحات الموضة للملابس العصرية الغربية الى جانب العبايات الشرقية واللباس الشرعي والعباية الزينبية ولباس المحجبات على النمط التركي بأطواله وقصاته المختلفة.
مؤخرًا إنضم نمط جديد من اللباس الى قائمة الأزياء اللبنانية عرف بالقفطان لتشابه نمطه مع القفطان المغربي التراثي ذائع الصيت، بعدما ألهم عددًا من المصممين اللبنانيين كالمصممة العالمية ريم عكرا، وكريستيان معوض ولاميتا فرنجية وآخرين ممن وجدوا في اللباس هوية وأسلوبًا للتأثير.
إلاّ أنّ خطوة من صيدا جنوب لبنان أعطت للقفطان بعدًا آخر فحدّثته وعدّلت عليه ليصبح قطعة عصرية أساسية في خزانة المرأة لاسيما المحجبة. حيث أطلقت الشابة اللبنانية سحر مشموشي مشروعها الفردي معتمدة على ذوقها وشغفها بالتصميم وخبرة والدها بالحياكة. فإنطلقت برسم حُلمها على الورق وسرعان ما تحول الى علامة تجارية عرفت ب “سنا ديزاين”.
بشغف كبير تتحدث سحر عن مشروعها الذي انطلق العام الماضي في فترة الحجر المنزلي الإلزامي الذي فرضته جائحة كورونا، حيث لمعت برأسها فكرة الاستفادة من مشغلهم المنزلي، لإنتاج ما اعتبرته “اكثر الحاجيات التي تستخدمها الإناث في العالم العربي والعالم”. ولهدفين آخرين في نفسها “البدء بالإنتاج والحد من الاستهلاك” وكذلك “الترويج للباس المحتشم الأنيق بشتّى موديلاته بعيدًا عن التقليد والنسخ”.
ولكن لماذا القفطان تحديدًا من دون سائر خطوط الملابس؟! بثقة تقول سحر ” الخيار الأفضل لأي مصمم هو التخصص في مجال بعينه، بمعنى أن يكون هناك هوية لعمله، وعلى إعتبار أن توجهي كان الاعتناء بصورة المرأة المحجبة عبر تقديم لباس محتشم أنيق، أطعّمه بما أهواه من زخرفة وحياكة يدوية، وقع إختياري على القفطان، مع الأخذ بعين الإعتبار، افتقاد السوق اللبناني لمصممين متخصصين في هذا النمط من اللباس، في حين أني من خلال عملي كمدربة عالمية معتمدة في التربية المختصة سافرت الى أكثر من دولة عربية حيث لفت إنتباهي القفطان المغربي تحديدًا، بعدما وجدت فيه شيئًا يشبهنا. فقمت بلبننته بإدخال عناصر عليه وحذف أخرى، بما يتناسب مع الذوق المحلي”. والقفطان اللبناني الخاص ب”سنا ديزاين” عبارة عن قطعة قماش طويلة، عملية، قليلة الزخرفة، تناسب الإستخدام اليومي سواء داخل المنزل، أوعند الزيارات، وفي أماكن العمل، وكذلك أثناء السفر. كما يمكن أن تكون خيارًا جيدًا للمناسبات، ويمكن إرتدائها فوق الملابس العصرية ك التيشيرت والبنطال، أو مع رداء، يكون غالبًا من نفس قماش القفطان.
وتتابع سحر موضحة “لكننا في سنا ديزاين نصمم أيضًا الفساتين والقمصان والعبايات الشرقية والكارديغان -وهو لباس يشبه الروب الطويل يصل الى حدود الكاحل- وغيرها من الملابس المحتشمة بهدف تلبية مختلف الأذواق. كما ننفذ تصاميم خاصة تُرسل إلينا بشرط التعديل عليها، لأننا نرفض سرقة الأفكار ونؤمن بالإبتكار والإمكانيات الذاتية”
نسألها عن أسباب دخولها لعالم التصميم. تلمع عيناها فرحًا وهي تسند رأسها الى باطن كفها اليمنى في محاولة لاستعادة صورة من طفولتها، حيث كانت تراقب انهماك والدها داخل مشغله المنزلي الصغير لحياكة الملابس الرجالية، ولكنها لم تتصور يومًا أن تستخدم أدواته من مقصات، ودبابيس، وإبر، وخيطان لتحيك ملابس نسائية تحمل توقيعها الخاص. لاسيما أنها تخصصت في مجالات بعيدة، حيث درست الإعلام والعلاقات العامة وعملت لعقد من الزمن في مجال التعليم والتدريب.
ليس ذلك فحسب، تعدّل سحر جلستها وهي تنتقل بالذاكرة الى تلك الليلة من عام 2020، كسائر اللبنانين، توقف نشاطها خارج المنزل، لا سفر قريب ولا تدريب مباشر، إنما حجر صحي مقترن بظروف اقتصادية صعبة تعيشها البلاد. في تلك الليلة أطلقت سحر العنان لخيالها وهي تراقب أفراد عائلتها يتبادلون الأحاديث على مقربة من ماكينة خياطة قديمة نسبيًا. تحسست ثوبها، فإسترجعت شغفها بالأقمشة مع شعورها بإمتنان كبير لمهنة والدها. ومن تلك الليلة الدافئة استلهمت سحر فكرة تأسيس تجارة مستقلة علّها تستثمر فيها مهاراتها.
منذ اقل من شهرين توفي والد سحر وبقي إلهامه حاضرًا وأفكاره متوهجة. وكأنه بارك العمل، فسلّم أدواته، وأسلم الروح. بتأثر تقول سحر” والدي هو ملهمي، حرصت أن نبدأ كعائلة بنية الإستثمار ولو بالقليل بدأنا بتصميم واحد والآن لدينا مئة تصميم والباقي قيد التنفيذ. أؤمن أن النجاح مفتاحه التدرج في العمل وتقبل كل مرحلة بنجاحاتها واخفاقاتها وعدم الوقوف عندها” ثم تتابع بحماس واضح “نحن نفكر ونصمم ونرسم على الورق ثم ننفذ على القماش وقد عمدنا من البداية إلى توظيف كل من فقد عمله ويرغب بالإنتاج وتحصيل الرزق بإبداع، فإنضم إلينا عدد من الأشخاص وأبدوا إمتنانًا كبيرًا لهذه الفرصة وبدأنا معًا، أرسم التصاميم وينفذوها من داخل منازلهم على إمتداد الوطن، في وقت نعمل على أن يكون لنا مشغلًا مستقلًا قريبًا”.
ومن ألطف المواقف التي رافقت سحر أثناء عملها في عالم التصميم، أنها تمكنت من مساعدة جارهم الذي أغلق ورشته للنجارة خلال الأزمة الإقتصادية. وحين علمت بوضعه لم تهدأ حتى إبتكرت له تصاميم لجزادين خشبية تناسب الفساتين والقفاطين وسرعان ما لاقى عمله رواجًا كبيرًا لينطلق بمشروع شخصي يحمل توقيعه، ويبيع أونلاين للداخل والخارج.
وكذلك “سنا ديزاين” التي أوجدت حسابًا يحمل اسمها “Sana Designs Lebanon” على أكثر من وسيلة تواصل للبيع أونلاين، يتابعها حاليًّا أكثر من ثمانية آلاف شخص على فيسبوك وحوالي الخمسة آلاف متابع على إنستغرام حيث يتم الرد مباشرة على طلب المتابعين “بعدما وظِفتْ صبية خصيصًا لهذا الغرض” .
وتُظهر سحر ارتياحها للمكانة التي وصل اليها عملها قائلة “بدأت مسألة الثقة من المعارف وكبرت لتمتد لعدد أكبر بعد ردود فعل الزبونات الرائع. اتقنّا التفصيل والتصميم والتزمنا بالأرقام حسب الوزن والطول، مع التأكيد الدائم على الزبونة بطرح اي سؤال او استفسار حول نوع القماش وغيره قبل التأكيد على الطلب” مضيفة أن البيع محليًا بالعملة الوطنية اللبنانية حيث تزور المصممة أسواق الجملة بنفسها لتعثر على الأقمشة الفاخرة بأسعار مناسبة وتعلّق “الحمدلله حتى الآن أتمكن من إيجاد طلبي، وأوفق لإختيار الأفضل، لأبيع بالتالي بأسعار مقبولة، طالما أنني أشتري بسعر الليرة سأبيع بالعملة نفسها”
وتأتي هذه المشاريع الصغيرة في ظل اعتماد الميزان التجاري اللبناني على الإستيراد وإن لأصغر المستلزمات اليومية والمواد الأولية كالدبابيس والخرز لكنّ بارقة الأمل تكمن في إعادة التصدير للملابس الجاهزة، حيث حرصت سنا ديزاين منذ مطلع العام الحالي على إقتحام الأسواق التركية –المصدّر الرئيسي لملابس المحجبات الى لبنان- من بوابة القفطان وكذلك دخلت الأسواق المصرية التي تعد مصدرًا أساسيًا لإستيراد القطنيات في لبنان، وتلقت دعوة لزيارة مصر بهدف عرض تصاميمها مباشرة من الداخل، ولم تنسَ الإنفتاح على الأسواق العربية حيث بدأت بالتواصل مع المعنيين مؤخرًا. فهل يكون القفطان اللبناني متوفرًا قريبًا في الأسواق المغربية؟! تضحك سحر معقّبة “لننتظر ونرى”.