عبد الباري عطوان
تُواجِه خمس دول وكيانات شرق أوسَطيّة حِصارات اقتصاديّة خانقة هذه الأيّام، هي إيران وسورية ولبنان واليمن إلى جانب قطاع غزّة، الهدف مِنها تركيع شُعوبها، ودفعها للثّورة والتمرّد للإطاحة بالأنظمة القائمة فيها، إمّا للإتيان بأنظمةٍ أخرى ترضَخ للمشروعين الأمريكيّ والإسرائيليّ، أو زرع حالة من الفوضى التّدميريّة، وتفكيك الدّول القائمة.
هذه الحِصارات لم تفشل فقط، بل أتَت بنتائج عكسيّة تمامًا، وتُؤكِّد مُعظم المُؤشِّرات بأنّ هذه الدّول تخرج منها أكثر قوّةً وصلابة، بينما تُواجِه الحُكومات العربيّة المُنخرطة في المَشروعين الأمريكيّ والإسرائيليّ أزَمات داخليّة سياسيّة واقتصاديّة مُتفاقمة، خاصّةً في مِنطقة الخليج.
فالحِصار الخانق دفع حركات المُقاومة في قِطاع غزّة، وحركتيّ حماس والجِهاد الإسلامي تحديدًا على تحقيق الاكتِفاء الذّاتي في تصنيع الأسلحة، وتطوير قُدرات عسكريّة مُتقدِّمة تتوّجت بالانتِصار الأخير في قِطاع غزّة، أمّا سورية فامتصّت، أو بالأحرى أجهضت، تطبيقات قانون قيصر، واستطاعت أن تَكسِر الحِصار بشَكلٍ تدريجيّ، أمّا إيران كبيرتهم التي علّمتهم السّحر، فاستطاعت أن تَجِد البدائل في روسيا والصين والاستِقلال نوويًّا، وتُرغِم الولايات المتحدة على استِجداء التّفاوض معها للعودة إلى البرنامج النووي، دُون التّراجع ملّيمترًا واحدًا عن شُروطها، بل ودُون الجُلوس على مائدةٍ واحدة مع المُفاوضين الأمريكيين وجهًا لوجه.
***
تصريحان لافتان للنّظر في المنطقة العربيّة وتطوّر “قضائي” مُهِم في الدّولة الإيرانيّة يُمكِن أن تُحَدِّد جميعها السّيناريوهات الزّاحفة إلى المِنطقة، والخُطوط العريضة لخريطة التّوجّهات القادمة فيها:
الأوّل: الإنذار الذي وجّهه السيّد حسن نصر الله أمين عام “حزب الله” في كلمته التي ألقاها في العيد الثّلاثين لانطِلاق قناة “المنار”، وهدّد فيه بكسر حِصار المَحروقات المفروض على اللّبنانيين، واستِقدام ناقلات مُحمّلة بالبنزين والمازوت من إيران، وتوفير الحِماية لها إذا حاولت الدّولة بتَحريضٍ من ميليشيات مُوالية لأمريكا منعها، وللمرَّة الألف نقول إنّ هذا الرّجل إذا قال فعل خاصّةً إذا فاضَ كيْلُه.
الثّاني: دعوات من أعضاء مُتشَدِّدين في البرلمان الايراني لتقديم شكوى رسميّة ضدّ الرئيس المُنتهية ولايته حسن روحاني ومُقاضاته لتوقيعه على وثيقة لليونسكو لعام 2030 بشأن المُساواة بين الجنسين في التّعليم ورفَضها السيّد علي خامنئي المُرشد العام، وجرى تعليقها عام 2017، فإعادة نبش هذه الوثيقة قبل أسبوعين من الانتِخابات الرئاسيّة في 18 حزيران (يونيو) الحالي يعني أنّ عصر الإصلاحيين انتهى عمليًّا، وأنّ احتِمالات العودة للاتّفاق النووي باتت مَحدودةً، إنْ لم تَكُن معدومةً، وكُل هذه المُفاوضات في فيننا جاءت لكسب الوقت للوصول إلى هذه الانتِخابات.
الثّالث: كشف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في حديثٍ لتلفزيون “الجزيرة” “أنّ بعض الأطراف (لم يُسَمِّها) كانت تتآمر على الدّول العربيّة على غِرار سورية، قال في “يَومٍ ما” سنعود إلى الجزائر بعدما ننتهي من سورية”، وقال “أنا أقول لهذه الأطراف لحمنا مُرٌّ ولا يُؤكَل”، والسّبب وقوف الجزائر إلى جانب الشّعوب المَغلوبة والمَقهورة في إشارةٍ إلى قضيّة فِلسطين، وعزم الجزائر استِعادة دورها في محور المُقاومة.
الانتِخابات الرئاسيّة الايرانيّة التي ستتم بعد عشرة أيّام، ومن المُرجَّح أن يفوز فيها إبراهيم رئيسيّ شيخ المُتشَدِّدين، ربّما تكون “ساعة الصّفر” للتَّوجُّه الجديد في المِنطقة، وعُنوانه الأبرز التّصدّي للمَشروعين الأمريكي والإسرائيلي.
لا نفهم لماذا تتمدَّد طوابير السيّارات أمام محطّات الوقود في لبنان عدّة كيلومترات بينما ترفض الدّولة عُروضًا لشِراء ملايين البراميل الإيرانيّة بسِعرٍ مُنخفض، وباللّيرة اللبنانيّة، رُضوخًا لإملاءاتٍ أمريكيّة؟ والشّي نفسه في اليمن، وقبلهما في سورية وقِطاع غزّة؟ هل النّفط الايراني “حرام” والنُّفوط الأُخرى “حلال” مثلًا؟ وهل النّفط بات أداةَ استِعمار واحتِلال في بلدٍ بِلا حُكومة وثلاثة أرباع شعبه تحت خطّ الجُوع؟
وهل من المنطقي أن يتم احتِلال آبار النّفط السّوري واليمني من قِبَل حُلفاء أمريكا، ثمّ يتم منع استِيراد المحروقات في الوقتِ نفسه من دُولٍ أُخرى، بِما في ذلك دول الخليج “العربيّة” مثلًا؟ وهل قدّمت هذه الدّول البترول والغاز للشّعوب في سورية واليمن ولبنان وقالوا لا؟
***
هذه الحِصارات بدأت تتآكل بسُرعةٍ قياسيّة، بسبب مُقاومة هذا الواقع المأساوي، والالتِفاف حول الأحزاب والفصائل التي تتصدّى للهيمنة الأمريكيّة والإسرائيليّة المُشتَركة، فالسيّد نصر الله سيَكسِر الحِصار النّفطي على لبنان حتمًا، ويَعرِف كيف يحمي ناقلات النّفط الإيرانيّة، وحركة أنصار الله في اليمن تتلقّى هذه الأيّام عُروضًا من الوسطاء بنقل فرق التّفتيش الدّولي من جيبوتي إلى الحديدة، وإعادة فتح مطار صنعاء لجميع الطّائرات باستِثناء القادمة من طِهران وبيروت وبغداد، أمّا حركات المُقاومة في قِطاع غزّة فأصبحت صواريخها هي صاحبة الكلمة العُليا، وبات الوسطاء يتَدفّقون إلى حركة “حماس” وحُلفائها طالبين وقف إطلاق النّار، بما فيهم الرئيس بايدن شَخصيًّا.
زمن الحِصارات يتآكَل ويقترب من نهايته، وزمن الرّعب والهلع إلى الإسرائيليين وحُلفائهم العرب قد بدَأ، والانطِلاقة الأكبر لمحور المُقاومة ستتبلور في أبهى وأقوى صُورها وكلمة السِّر قد تكون إعلان نتائج الانتخابات الإيرانيّة، وحينها لكُلِّ حادثٍ حديث.. والأيّام بيننا.