مشكلة اللبنانيين مع أداء الدولة في ملف اللقاحات لا تختلف عن مشكلتهم مع أدائها في إجراءات مواجهة انتشار الوباء، ولا في متابعة بقية أمور البلاد في ظل الأزمة الخانقة.
رئيس الحكومة حسان دياب يرفض تفعيل حكومة تصريف الأعمال. لا هو يريد الاستقالة النهائية ولا يريد في المقابل ترك الوزراء يعملون بطاقة أكبر، علماً بأن وزراء كثراً استغلّوا الاستقالة والجدال حول تصريف الأعمال ليتوقّفوا عن القيام بدورهم الأساسي في مواجهة الأزمة. والجميع هنا يعلم أن الصعوبات في تأليف حكومة جديدة تكبر يوماً بعد يوم.
لكن بين الخلافات السياسية وبين الواجب الوطني في مواجهة أزمة كورونا، يصبح المواطن أمام معضلة كبيرة، أساسها أن من في الحكم يتلهّون بمشكلاتهم الخاصة وحساباتهم الضيقة، من دون التوصل الى خلاصة قرارات وإجراءات تسرّع حصول لبنان على اللقاحات المطلوبة، بينما ظهرت السمسرة اللبنانية الشهيرة بأبشع صورها في الأيام القليلة الماضية.
في الإجراءات الرسمية:
لم يحصل في العالم، أن امتنع رئيس للجمهورية أو رئيس للحكومة أو وزير للصحة أو مسؤول بارز عن إجراء عشرات الاتصالات واللقاءات مع الدول المصنّعة للقاحات من أجل توفير حصة تناسب حاجات شعوبهم. أما في لبنان، الذي يحتل مرتبة متقدمة في الدول المتضررة من الوباء، فلم يبادر كبار المسؤولين عندنا سوى الى اتصالات عادية ورسائل لا تغني على الإطلاق. بل إن شركة فايزر الأميركية ــــ الألمانية التي وعدت لبنان بـ 600 ألف لقاح، لم ترسل سوى 250 ألفاً، وهي تعد بأن ترسل نحو 400 ألف في الشهرين المقبلين، علماً بأنه كان يجب أن يحصل ذلك قبل نهاية آذار.
في ملف اللقاح البريطاني (استرازينيكا)، ترك الأمر لاتصالات من خلال منصّة «كوفاكس» التي تتناتشها دول العالم، فيما أوروبا لا تريد بيع لقاح خارج الاتحاد الأوروبي، بالإضافة الى مواجهة أزمة الثقة بهذا اللقاح تحديداً بعد تعليق استخدامه في عدد من دول العالم. وكان على لبنان المسارعة الى عقود مع المصانع المنتجة لـ«استرازينيكا» في كوريا والهند وروسيا من أجل الحصول على نحو مليوني جرعة، لكن حتى اللحظة لا يبدو أن ما سنحصل عليه يتجاوز 43 ألف جرعة فقط.
في الملف الصيني، تعب سفير الصين في بيروت من إظهار علامات التعجب إزاء عدم قيام السلطات اللبنانية بالتواصل اللازم، وأن الأمر اقتصر على لقاءات ورسائل لا تفيد في معالجة مهمة من هذا النوع، بينما ترك للقطاع الخاص ــــ الذي تحوّل بغالبية رجاله الى سماسرة ــــ العمل على الإتيان بكميات لتباع بضعفي أو ثلاثة أضعاف السعر. وبرغم أن الجيش اللبناني وافق على إدخال جنوده في المرحلة الثالثة من تجارب اللقاح الصيني («سينوفارم»)، وتولي أحد رجال الأعمال الحصول على 150 ألف لقاح لمصلحة المؤسسة العسكرية، إلا أن رجل الأعمال نفسه حجز 50 ألف جرعة لبيعها في السوق اللبنانية بسعر 22 دولاراً لكل جرعة، ومع ذلك لم يصل شيء إلى لبنان بعد.
أما بشأن اللقاح الروسي (سبوتنيك V»، فقد وقّع وزير الصحة حمد حسن أكثر من عشرين رسالة لعشرين شركة طلبت أن تذهب الى موسكو لمفاوضة الجهات المعنية هناك من أجل الحصول على اللقاح. وحتى اللحظة، لا يبدو أن النتائج قد اكتملت، علماً بأن ممثّلين لشركات قالوا إنهم عقدوا اتفاقات، لكن بسعر يصل الى 40 دولاراً لكل لقاح. وجاء إعلان رجل الأعمال جاك صراف عن صفقة مع المصدر الروسي، ليتبيّن أنها صفقة مع وكيل اللقاح الروسي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وحيث أظهرت الاتصالات أنه يباع هناك بسعر 20 دولاراً للجرعتين، لكن صراف أعلن أنه متاح في بيروت بسعر 38 دولاراً، تضاف إليها أتعاب مراكز التلقيح والتي تراوح بين عشرين وثلاثين ألف ليرة لكل لقاح تذهب لمصلحة المستشفيات الخاصة. والأخطر أن صراف يسعى الى منع أي شركة خاصة من الحصول على لقاحات روسية من الإمارات، بحجة أنه الوكيل الحصري، وهي وكالة غير موجودة على الإطلاق وتتعارض مع البروتوكول العالمي لتوزيع اللقاحات كما تتعارض مع القوانين اللبنانية ومع حقوق الإنسان. وينوي صرّاف إقامة احتفال استعراضي الثلاثاء المقبل في مطار بيروت الدولي، حيث سيتم تلقيح العاملين في شركة طيران الشرق الأوسط والعاملين في المطار، من دون معرفة الجدول الدقيق للكمية الإضافية من الجرعات التي يُفترض أن صراف سيبيعها في لبنان.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ إن الخلافات حول إدارة الملف انتقلت الى مستوى جديد، مع إصرار رئيس الحكومة حسان دياب على تشكيل لجنة جديدة في وزارة الصحة، قيل إنها ستواكب عمليات التلقيح. لكن تبيّن من نص القرار الصادر عن وزير الصحة، حمد حسن، أن اللجنة مهمّتها «مواكبة الجانب العملي لمسار التلقيح في المراكز المعتمدة (…) وتقييم وتطوير مسار التطبيق ومعالجة التحديات الناشئة عن تطبيق الخطة الموضوعة» من جانب اللجنة العلمية التي يتولى رئاستها الدكتور عبد الرحمن البزري. ويصرّ دياب على أن تتولى مستشارته للشؤون الصحية بترا خوري رئاسة هذه اللجنة والتي تضم ممثلين من جهات مهنية عديدة، لكنها تعكس تمثيلاً سياسياً أيضاً (تضم اللجنة، إلى مستشارة رئيس الحكومة، 15 عضواً من ضمنهم مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الصحية الدكتور وليد خوري). ولا بد من التذكير بأن خوري نفسها سبق أن قادت الضغوط ــــ مع آخرين ــــ لإصدار قرار بفتح البلاد نهاية العام الماضي، ما تسبّب في موجة الانتشار الهائل للوباء بين العشرين من كانون الأول الماضي والثاني من كانون الثاني. مع الإشارة الى أن المشكلات كانت كبيرة جداً بين بترا خوري ووزير الصحة الذي اتهمها مرة بأنها تحاول الاعتداء على صلاحياته. لكن قرار حسن بالأمس يتطلب تعديلات في عمل اللجنة العلمية، ما يثير حفيظة العاملين فيها وقد يدفعهم الى قرار بالاستقالة، بالإضافة الى ما علمته «الأخبار» من كون البنك الدولي الذي يموّل شراء اللقاحات كان قد حذّر قبل يومين جميع المسؤولين في لبنان من مغبّة تشكيل لجان إضافية لأن في ذلك ما يعقّد العملية ويثير الشكوك، ما قد يدفع البنك الدولي الى تجميد عمليات التمويل.
في هذه الأثناء، يبدو أن الرئيس دياب سيتحرك على خط التواصل المباشر مع القيادة الروسية وقد يبادر في الساعات المقبلة الى الاتصال برئيس الحكومة الروسية، واستدعاء السفير الروسي في بيروت، لأجل التعجيل بتوجيه الدعوة الى وزير الصحة اللبناني للقيام بزيارة عاجلة لروسيا. وهي الزيارة التي من شأنها توفير عقد للبنان بالحصول على مليون لقاح (مليوني جرعة) بسعر لا يتجاوز 19 دولاراً للقاح الواحد (سيُوزّع مجاناً، كما جرعات لقاح «فايزر»)، أي أقل بكثير من أسعار القطاع الخاص التي تبيّن أنها تراوح بين 40 و43 و45 دولاراً لكل من جرعتَي اللقاح الروسي.
المصدر / جريدة الأخبار اللبنانية