حكاية “حبيبة” التي أوقعت بمقـاوم في فخ العمالة لـ”إسرائيل”.
«الاجتياح» الاستخباري الإسرائيلي للبنان مستمر، وهو يستهدف خصوصاً من سبق لهم أن خدموا في صفوف المقاومة. بل إن بينهم، كما هي حال حسين ح.، أبناء قياديين في حزب الله. العميل الذي أوقفه فرع المعلومات أخيراً قاتل عشر سنوات في صفوف الحزب، قبل أن يُستدرج لإقامة علاقة عاطفية وتصويره في أوضاع حميمية وابتزازه للعمل لمصلحة العدو مقابل آلاف الدولارات
يندر أن يخلو حديث «الحاج سليم» من الاستشهاد بآيات قرآنية وعبارات دينية. في الستينيات من عمره، يغطي الشيب شعره الكثيف، وهو مزوّد بـ«عدّة الشغل»: يلبس خاتماً في يده اليمنى ويحمل سلسلة فضية يتدلى منها حجر كريم خُطَّت عليه عبارة دينية. يؤدي الصلاة في أوقاتها، ويتولّى إمامة المصلّين أحياناً. «قاتل في صفوف المقاومة سنوات طويلة قبل أن يصاب بجروح اضطرته للسفر إلى فرنسا لتلقي العلاج حيث تزوّج من فرنسية وعمل لاحقاً في الاستيراد والتصدير». هكذا قدّم الرجل نفسه إلى حسين ح.، وهو مقاتل سابق في الحزب ونجل أحد القياديين الشهداء، عندما تعرّف إليه في تنزانيا. وقد أحاط «الحاج سليم» الشاب باهتمام زائد، إذ أكّد له أنه ووالده كانا رفيقَي سلاح، وقلّما كان يمر ذكر الوالد من دون أن يقرأ «الحاج» الفاتحة عن روحه.حسين ح. من البيئة «اللصيقة» بالمقاومة وعلى تماس مباشر مع حزب الله. فهو نفسه انتسب إلى الحزب وقاتل في صفوفه بين عامي 2011 و2020، واستشهد والده في سوريا، كما أن اثنين من أخواله استشهدا في صفوف الحزب، إضافة إلى أن صهره وأعمامه والغالبية العظمى من المحيطين به إما متفرّغون في المقاومة أو من أنصارها. رغم ذلك، تمكّن «الحاج سليم»، وهو ضابط في الموساد الإسرائيلي، من تجنيد الشاب للعمل لمصلحة العدو، قبل أن يوقفه فرع المعلومات في بلدته في الغسانية بناء على إشارة المدعي العام التمييزي غسان عويدات.
محاضر التحقيق لم تكشف عن طرف الخيط الذي أدى إلى الكشف عن عمالة حسين ح. لكن المحققين أشاروا إلى أن الشبهات حامت حوله بعدما لاحظ أبناء بلدته الغسانية تحسّناً لافتاً في وضعه المعيشي، إثر سفره المتكرر إلى الخارج بين عامي 2020 و2022، إلى دول تعتمدها الاستخبارات الإسرائيلية لتجنيد عملائها وتدريبهم.
بداية، روى الموقوف للمحققين أنه بعد استقالته من صفوف الحزب عام 2020، سافر إلى أبيدجان للعمل في معمل للبلاستيك. بعد أشهر قليلة زار تركيا للسياحة. كان في ساحة تقسيم الشهيرة في إسطنبول عندما جلست قربه فتاة لفته جمالها وسمعها تتحدث بالعربية. اقترب منها وتعرّف إليها وتبادل معها الحديث، وأخبرها أنه يبحث عن عمل. بعدما تبادل أرقام الهاتف مع الفتاة التي تدعى حبيبة وتحدثا عبر تطبيق الواتساب. تطورت العلاقة بينهما إلى صداقة ثم إلى علاقة عاطفية، وقد ساعدته حبيبة في العثور على فرصة عمل، قبل أن يوافق على السفر معها إلى مقدونيا ليعملا في محل للحلويات تملكه هناك. ومن هناك، سافر للسياحة إلى بلجيكا ثم تركيا وتنزانيا.
لم يقتنع المحققون بالرواية التي ساقها الموقوف، خصوصاً أنّه زار لبنان مرتين بعد أشهر قليلة من سفره، واعترف بأنه حمل معه في المرة الأولى مبلغ 5 آلاف دولار وفي المرة الثانية عشرة آلاف دولار، مع أنّه لم يقض وقتاً طويلاً في العمل، وكان كثير السفر، إذ زار خمسة بلدان أمضى فيها 60 يوماً خلال بضعة أشهر. كما لم يقتنع المحققون بروايته حول «الصدفة» التي جمعته بفتاة في ساحة عامة وسرعة تطور علاقتهما إلى حد موافقته على السفر معها إلى بلدها. بعد مواجهته بهذه الشكوك، أقرّ الموقوف بأنّ «حبيبة» من عناصر الموساد. وأبلغ المحققين أنّه بعد سفره إلى أبيدجان، كتب على صفحة مجموعة على «فايسبوك»، تابعة للجالية اللبنانية في أبيدجان، بأنه يبحث عن عمل. بعدها، تواصل معه شخص عبر «فايسبوك»، وأخبره أنّه من قبل شخص يدعى «الحاج سليم» الذي كان صديقاً لوالده الشهيد وأنه يريد مساعدته. بعدها، اتصل به «الحاج سليم» وأرسل إليه مبلغاً من المال وعرض عليه السفر إلى تنزانيا للعمل في معمل كاكاو أوائل العام 2021. في تنزانيا قابل «الحاج» المزعوم الذي أعطاه مبلغاً من المال، وعرض عليه الانتقال إلى تركيا ليتعرف إلى ابنة صديقه والعمل في معمل حلويات تملكه في مقدونيا. كان ذلك في آذار 2021، بعدما أخبر حسين «الحاج» في إحدى المحادثات أنّه لم يسبق له أن ارتبط بأي علاقة عاطفية.
في تركيا، حصل اللقاء لتتطور العلاقة بين حبيبة وحسين إلى حب. وأبلغ الموقوف المحققين أنّ «الحاج» كان يزوره بشكل دوري ويعطيه مبالغ مالية بذريعة مساعدته كونه ابن صديقه، وفي مرات كثيرة روى له أموراً كان قد سمعها من والده.
مع عودته إلى لبنان مطلع عام 2022، حقّق جهاز أمن حزب الله مع حسين مرتين سُئل خلالهما عن أسباب تركه للحزب وما إذا كان على تواصل مع جهاز استخباراتي إسرائيلي، وقد نفى ذلك بالطبع.
بعد عودته إلى مقدونيا، طلب منه «الحاج سليم» لقاءه في بلجيكا وأبلغه أن هناك شخصاً سيحضر لاصطحابه، وأبلغه بألا يتذمر من الإجراءات الأمنية. في بلجيكا، استقبله «الحاج» في فيللا، و«رحّب» به قائلاً: «أنت في أحضان الموساد الإسرائيلي». وعرض أمامه فيديوهات جنسية له مع حبيبة في تركيا ومقدونيا وبروكسل وهدّده بنشرها والتعرض لعائلته. وأخضعه لتحقيق مفصّل حول مسيرته العسكرية في حزب الله منذ انتسابه إلى كشافة الإمام المهدي مروراً بانضمامه إلى التعبئة في حزب الله، والدورات الثقافية والعسكرية التي خضع لها إلى حين أصبح رسمياً ضمن عديد الحزب بدءاً من عام 2011. كما سُئل عن طبيعة عمله والمهمات التي أوكلت إليه، فأجاب بأنّه قاتل في سوريا، وأنّ معظم المهمات التي أوكلت إليه كانت داخل الأراضي السورية، لا سيما في القصير وربلة والرمادية. ووُجّهت إليه أسئلة خصوصاً عن دورة آمر فريق ودورة مضاد للدروع اللتين خضع لهما، وعن دورة المدفعية وكيفية تدربه على صاروخ الكورنيت لجهة تفكيكه وتركيبه وكيفية إطلاقه. واستنتج حسين بأنّ الغوص في التفاصيل كان للتأكد مما إذا كان فعلاً قد خضع للدورة. كذلك سأله «الحاج» بـ «التفصيل الممل» عن كيفية الانتقال من لبنان إلى سوريا، ونقاط تجمع عناصر الحزب في الضاحية الجنوبية، وفي المصنع للمقاتلين المتوجهين إلى داخل الأراضي السورية وفي بلدة القصر في البقاع الشمالي للمقاتلين المتوجهين إلى القصير والقلمون وتدمر.
(أبلغ العميل المشغل أن والده استشهد في قصف إسرائيلي في سوريا فأجابه: «هنيئاً له الشهادة»!)
وعن المحاور التي قاتل فيها، قال إنه شارك في معارك القصير وربلة وتل مندو والقلمون وحلب وتدمر والزبداني وحمص. فسأله المشغل عن تكتيكات القتال العسكرية وكيفية الهجوم والدفاع ونوع الأسلحة التي كانت تُستعمل. ودخل معه في تفاصيل دقيقة حول الخطط القتالية وعن هيكلية التنظيم، فأجابه حسين بأن الهيكلية مؤلفة من أفواج وسرايا ومجموعات وفرق، شارحاً عن خطوط الإمداد وعمليات التوجيه عبر الأجهزة اللاسلكية.
ولدى سؤاله عن أقربائه، قال الموقوف إن اثنين من أخواله استشهدا في صفوف حزب الله، وأنّ عمّه كان مرافقاً لمسؤول ملف حزب الله في العراق الشيخ محمد كوثراني. كما سُئل عن مؤسسة الشهيد والتقديمات لعوائل الشهداء والطبابة والضمان. واستفسر المحقق عن نوعية الطبابة وما إذا كانت سيئة أم جيدة، وما إذا كانت المؤسسة لا تزال تتولى ترميم منازل عائلات الشهداء، وعن القروض التي تُمنح من قبل المؤسسة.
واللافت أن المشغّل سأل حسين عن كيفية استشهاد والده، فأجابه بأنّه استُشهِد في سوريا عندما قصف الطيران الإسرائيلي مركزاً كان يتواجد فيه مع مسؤولين إيرانيين. عندها قال له مشغله: «الله يرحمه وهنيئاً له الشهادة، فهذا ما كان يتمنّاه»!
(سُئل العميل عن تقديمات «مؤسسة الشهيد» وعن نوعية الطبابة وعن ترميم منازل عائلات الشهداء)
بعدها، عُرض الشاب على جهاز كشف الكذب على أربع مراحل، مدة كل منها ثلاث ساعات، سئل خلالها عن علاقته بالأجهزة الأمنية اللبنانية وحزب الله. وقد اجتاز اختبار كشف الكذب بنجاح. عندها عرّفه «الحاج سليم» على شخص يدعى «أمير» وأبلغه بأنّه سيتولى التواصل معه. كما قام «الحاج»، مع شخص آخر، بتدريبه على كيفية التنقل والقيام بأعمال المراقبة وعلى كيفية التشفير وإرسال التقارير وتلقي الرسائل المشفّرة. ودُرّب، في حال انكشاف أمره، على كيفية التعاطي مع المحققين وعلى ضرورة إبلاغهم بالرواية التي تبنّاها في بداية التحقيق معه. كما كان لافتاً طلب «الحاج سليم» منه عدم إبلاغ حبيبة بماضيه، من باب لعب الأدوار لإيهامه بأنّها لا تعلم شيئاً عن الأمر. وسأله «الحاج» ما إذا كان في حوزته أي غرض يدل على علاقته بحزب الله، فقال إن لديه كتاب أدعية دينية وخاتماً من الفضة، فطلب منه تسليمهما إليه وعدم حملهما معه إلى تركيا. بعدها، في أيار 2022، غادر حسين بروكسل برفقة حبيبة إلى تركيا، ومنها إلى مقدونيا حيث تولى «أمير» استئجار منزل له، قبل أن يعود إلى لبنان في زيارة تم خلالها توقيفه.
المصدر جريدة الأخبار