تُتخذ القرارات لدى أرفع السلطات في لبنان، نقدية أو سياسية أو حتى قضائية، وتُنسف بلقاءات ودية. تُرسم الخطط وتُنسف بشحطة قلم. تُحرز الأهداف وتُطلق المواقف كرمى لعيون زعماء الأحزاب والطوائف، في بلد يعجز سياسيوه عن تشكيل حكومة منذ أشهر. كل ذلك ويحدّثوننا عن استقرار وعن أن ودائعنا في مأمن. ويحمّلون المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة مسؤولية التهافت على الدواء والدولار والمواد الغذائية وغيرها.
لا شيء تّحرزه السلطة السياسية الراهنة يوحي بالثقة، فلا قرار ولا موقف ولا إجراء ولا خطط ولا رؤية.. كل ما يقومون به هو الإمعان بالفوضى ثم الفوضى، ما الذي يمكن أن نتوقعه من أجواء الفوضى واللاثقة سوى مزيد من الانهيار الاقتصادي والنقدي وزيادة من التضخم.
هذا ما حصل فعلياً في اليومين الماضيين حين قرر مجلس شورى الدولة وقف تنفيذ تعميم مصرف لبنان 151 لعدم قانونيته. وسرعان ما استجاب المصرف المركزي. لم يصدر حاكم البنك المركزي أي موقف دفاعي عن تعميم أصدره منذ أكثر من عام في إطار سياسته النقدية. نُسف التعميم، وبدلاً من استكمال المسار القانوني الذي بدأه مجلس الشورى، حرصاً على قانونية التعاميم والقرارات، وحماية لأموال المودعين، عمد الأخير إلى التراجع ضمناً عن قراره بعد تدخل وساطة رئاسة الجمهورية ضاربة عرض الحائط مبدأ فصل السلطات، لتعيد المودعين إلى نقطة الصفر. وهي استئناف العمل بالتعميم 151 وخسارة نحو 70 في المئة من ودائعهم من خلال سحب الدولار وفق سعر صرف 3900 ليرة.
هذه المعمعة عزّزت انعدام الثقة لدى المواطن، تاجراً كان أم مستثمراً أو موظفاً، مودعاً كان أم غير ذلك. فالقلق والخوف من المستقبل، وتحسّباً لأي مفاجآت، رفع الطلب على الدولار ما دفع بسعر الصرف إلى تسجيل مزيد من الارتفاعات كنتيجة طبيعية للفوضى.
سعر صرف الدولار الفعلي
سلك سعر صرف الدولار في السوق السوداء في اليومين الماضيين مساراً صعودياً وصفه خبراء بالاتجاه الطبيعي، نتيجة الأجواء السائدة والقرارات المتناقضة، وكل ما رافقها من مخالفات وتجاوزات قانونية، وعدم يقين باستقرار محتمل في المرحلة المقبلة. وبلغ سعر صرف الدولار اليوم 4 حزيران 2021 أكثر من 13450 ليرة (حتى تاريخ نشر هذا التقرير) ملامساً مستوى 13500 ليرة في بعض المناطق، ولدى عدد من صرّافي السوق السوداء.
أما دولار التجار والمستوردين فأسعار صرفه تختلف تماماً عن تلك المتداولة بين المواطنين. إذ يعمد التجار، خصوصاً منهم تجار المواد الغذائية، إلى تسعير بضاعتهم وفق سعر صرف يتراوح بين 15000 و17000 ليرة. ووفق أحد التجار في حديث إلى “المدن” يتم تسعير المواد الاستهلاكية ذات الاستهلاك اليومي، وفق سعر صرف يتراوح بين 14000 و14500 ليرة أو 15000 بالحد الأقصى. أما المواد الاستهلاكية ذات الاستهلاك متوسط وبعيد المدى، فيتم تسعيرها وفق سعر صرف يتراوح بين 15000 ليرة بالحد الأدنى و17000 ليرة، وأحياناً يسعّر التاجر بأعلى من 17000 ليرة للدولار، في سبيل حماية رأسماله التشغيلي من الذوبان في السوق، بسبب تسارع ارتفاع سعر صرف الدولار، وتجنبّاً لأي أزمة مفاجئة قد تقع في لبنان في المرحلة المقبلة.
لا ثقة لا استقرار
ارتفاع سعر صرف الدولار ليس سوى نتيجة طبيعية لسوء إدارة الأزمات في البلد. وتقول الباحثة في الشأن الاقتصادي والمالي، والأستاذة الجامعية، ليال منصور إشراقية، في حديث إلى “المدن”، إن اتخاذ القرارات المفصلية من قبل رأس السلطات النقدية أو القضائية أو السياسية والتراجع عنها من دون أي تبرير، يكاد يكون الإجراء الأسوأ على الإطلاق. وترى منصور أن تكرار المواقف المتردّدة والتراجع عن قرارات مُتّخذة، إن من قبل مجلس شورى الدولة أو مصرف لبنان أو السلطة السياسية.. إنما يدل على انعدام الثقة بالقرارات المُتخذة.
وتشدد منصور على خطورة التراجع عن القرارات، في ظل غياب أي رؤية واضحة لمسار الأمور. فذلك يوحي ويُشيع انعدام الثقة ويرفع منسوب الشكوك بحل الأزمة. وعليه، يبدأ المواطن بالبحث عن مكامن ثقة، ألا وهي شراء الدولار. ملخّصة بالقول “كلما ازداد القلق والخوف بين المواطنين من المستقبل، سيزيد سعر صرف الدولار، مهما كانت الجهود الرامية إلى خفضه”.
كل يوم يمر من دون حل، وفي غياب الثقة، يعني أن الدولار سيستمر بالارتفاع، حتى وإن تم تشكيل الحكومة. فذلك، قد يهدّىء من تصاعد سعر صرف الدولار قليلاً، لكنه سرعان ما يستعيد اتجاهه صعوداً، في حال لم يلمس المواطن نوايا جدية وصادقة لحل الأزمة