موقع العهد الالكتروني – زينب نعمة
ثمّة محطّات مفصليّة في تاريخ الأوطان، تؤرّخ لمرحلة جديدة ليست كما قبلها، وتعيد تشكيل التاريخ ورسم المشهد كما يجب أن يكون. تحرير العام 2000، حدث تاريخيّ عظيم لفت انتباه العالم بأسره، وأثبت أنّ المقاومة هي السبيل الأوحد لتحرير الأرض، وأنّ ما دون ذلك من خيارات، هي محض هدر للوقت وتسويف وأوهام لا أكثر.
عندما تصبحُ العدسة مقاوِمة
تأخذ المقاومة أشكالًا عديدة، أهمها الإعلام حيث تصبح عدسة المصوّر الصحافي رصاصة وصاورخًا، وقلم الصحافي والمراسل وصوته ورسالته المباشرة سلاحًا أقوى من ترسانة صواريخ حديثة.
لاستعادة بعض ذكريات وتفاصيل تحرير أيار عام 2000، أجرى موقع “العهد” الإخباري لقاءً شيّقًا مع المصوّر الصحافي عباس سلمان، الذي واكب بعدسته أيام التحرير منذ اللّحظات الأولى وكان في حينه مصوّرًا صحافيًا لجريدة “السفير”. عند البدء بتحرير القرى، توجه سلمان إلى الجنوب وتنقّل بين مجموعة قرى كالقنطرة والغندورية والطيبة راصدًا بعدسته مشاهد العزّة للأهالي الذين كانوا يقيمون أعراس الانتصار. يقول سلمان “إنّ حدثًا كبيرًا كانتصار أيّار يفرض على المراسل المنتدب من المؤسسة أن ينقل المشهد بحرفيّة عالية ويركّز على التفاصيل التي لا يمكن للشخص العاديّ أن يلاحظها”.
الصورة بحسب سلمان تصنع الحدث وتعبّر عنه وتنقله ليخلّد في الذاكرة الشعبية للناس وكي يصل إلى الأجيال اللّاحقة التي لم تشهده. وعن الصورة الأشهر التي التقطها خلال ساعات التحرير، يؤكّد سلمان أنّها الصورة التي تلخّص الحكاية، وكان قد التقطها على الحدود اللبنانية الفلسطينية ونشرتها جريدة “السفير” كمانشيت على الصفحة الأولى تحت عنوان “بنادق المقاومة ترسم الحدود”، وهي لقطة لدورية إسرائيلية يقابلها في الجانب اللبناني مقاومون يحملون أسلحتهم وراية المقاومة في ثنائية نادرة ومميّزة وفريدة. كذلك المانشيت الأشهر “الجنوب يحررّ الوطن” الذي بقي صداه إلى وقتنا الرّاهن. ومن المشاهد التي وثّقها الزميل عبّاس بعدسته المقاومة هي تحرير معتقل الخيام، وتفاصيل غرف التحقيقات، إلى الزنازين الانفرادية وغرف التعذيب، والغرف المشتركة والباحات الخارجية والمباني من الخارج.
لا شك أنّ الجيل الذي عاش لحظات التحرير وواكب ما تلاه من إنجازات أصبح أكثر إيمانًا بنهج المقاومة وأنّها المظلّة الأساسية والوحيدة التي نستطيع الرّهان عليها. يفخر عباس سلمان بأنه واكب المرحلة التي سبقت التحرير عبر تغطيته لأبرز أحداث الوطن لقناعته بأنّ الإعلام سلاح فتاك في مواجهة التزلف والتضليل. وعن تجربته يقول: كنت شاهدًا على كلّ الانتصارات التي تحققت بدءًا من عمليات تبادل الأسرى مرورًا بعدوان تموز 1993 تصفية الحساب ونيسان 1996 عناقيد الغضب وتحرير الجنوب عام 2000 وعدوان تموز 2006 وغيرها الكثير من الأحداث الداخية والسياسية وأبرز المؤتمرات والاجتماعات السياسية والتظاهرات المطلبية والثورات. كلّ هذه التجارب علمتني أنّ الكاميرا والكلمة الحرة لا تقلّان أهمية عن السلاح الحربي لأنّ الإعلام في ماضينا وحاضرنا سلاح فعال إذا أجدنا استخدامه بالطريقة السليمة التي تخدم القضية والرسالة التي يحملها بعيدًا عن السبق والادّعاء والتسلق والتزلف والتلفيق والتضليل.
إذاعة “النور”: تنقل بالصوت وضوح الصورة
تجربة إعلامية أخرى وهذه المرّة في الإعلام المسموع وهي تجربة إذاعة “النور” حيث تشرّفنا بإجراء لقاء مع مدير الأخبار والبرامج السياسية في الإذاعة الأستاذ عباس شقير الذي لخّص لنا مواكبة الإذاعة لتحرير العام 2000. يعود شقير بالذاكرة إلى تلك المرحلة واصفًا ما جرى بأنّه “كالحلم”، بالرغم من أنّ بوادر هذا الحدث كانت تلوح في الأفق قبل فترة من حصول التحرير، إلاّ أنّ التوقيت لم يكن بالحسبان.
بدأ الأمر كتحرّك شعبيّ في بلدة القنطرة ثم تطوّرت الوقائع بشكل دراماتيكيّ وسريع إلى حدّ تحرير القرى ومعتقل الخيام. بسبب خصوصية هذا الحدث المهم، استنفرت الإذاعة جهودها كافّة لتغطية كلّ التفاصيل بحركة غير مسبوقة. مجموعة مراسلين واكبوا الحدث عبر تغطيات من معظم القرى التي بدأت تتحرّر تدريجيًا، وأوّل الواصلين كان الزميل علي شعيب. هذه المواكبات والحملات الإعلامية من الميدان وغرفة التحريرعلى حدّ سواء، كانت بمثابة جهود متضافرة لتغطية كل الأخبار والمشاهدات الميدانية بشكل متقن ومهني متين. كان الجميع يشكّلون خلية نحل حتى الأقسام غير الإخبارية، الجميع يرغب في المساهمة في نقل الحدث نظرًا لأهمية ما يحصل ولفرادة الحدث ولوقعه الكبير في قلوب العاملين والناس على حدّ سواء. وتحديدًا لأنّ المتابعة في وقتها كانت مرتفعة جدًا بهدف مواكبة الحدث والحصول على المعلومة الأدقّ.
وعن الرّوحية السائدة في وقتها يؤكّد شقير أنّ كلّ عامل في المؤسسة كان يحتفل على طريقته، فالحدث كان مؤثرًا على الصعيد المعنوي لدرجة أنّ الجميع كانوا يتعاطون باندفاعية غير مسبوقة. الانتصار كان دافعًا روحيًا ومعنويًا كبيرًا وكأنّ هناك طاقة خفيّة سكنت في الجميع وقامت بتحريكهم بطريقة غير اعتيادية للعمل والعطاء على مستوى عال. فالمراسلون الميدانيون كانوا على تواصل مباشر بقسم الأخبار لرفدهم بكلّ جديد، ولتغطية النشرات الإخبارية وفترات البثّ المباشر.
برأي شقير هذا المهرجان الإذاعي الرائع قد لا يحصل في العمر إلاّ مرّة.
وعن خاصيّة العمل الإذاعي يؤكّد شقير أنّ للإذاعة خصوصية بسبب دورها في نقل الصورة عبر الصوت والكلمات، هنا تكمن الصعوبة والدقّة معا. الصوت يجب أن يتحوّل لمشهديّة واقعية تحاكي ما يحصل فعلًا على الأرض. تحرير القرى، الاحتفالات الشعبية، الدخول إلى المناطق المحتلّة، تحرير الأسرى من معتقل الخيام وآلاف العائدين إلى قراهم التي حرموا منها طيلة عقدين ونيف من الزمن. المشهد فعلاً مهيب ويستحقّ كلّ إجلال واحترام.
كلّ هذا الكمّ من العزّ والكرامة في حدث تاريخيّ جلل، الأمر فعلًا يجعل القلوب خاشعة، ولا يُلام المراسل على دموعه في ظلّ طاقّة عزّ لا مثيل لها.
إنجاز التحرير سيبقى وسام عزّ يعلّق على صدور شعب رفض الذلّ وانتفض لمقاومة المحتلّ الغاشم وكتب بالدم نهاية الحكاية. نصرٌ عظيم مؤزر ببركة دماء الشهداء وتضحيات المجاهدين وعذابات الأسرى والجرحى ودموع الأمهات. الانتصار هو كلّ الحكاية المتوّجة بالعزّ والافتخار.